سيرة كتاب

د. محمد مرشد الكميم
د. محمد مرشد الكميم
2022/09/02 الساعة 09:35 صباحاً

 

 

     تقع عيناك على كتاب يحمل عنوان: "الطباخ" وأنت في مكتبة لبيع الكتب أو في متجر أو صفحة أو وسيلة تواصل إلكترونية، فتضحك في نفسك على المستوى الذي وصل إليه التفكير والتأليف، ليس لأنك تحتقر هذا المجال أو تنتقص من العاملين فيه، ولكن لأنه لا يدخل في مجال اهتماماتك الثقافية والمعرفية ولا في مجال اختصاصك الأدبي والنقدي، تظن -خطأ منك- أن لن يهتم به غير الطباخين المحترفين والهواة ومتذوقي الأطعمة وربات البيوت من النساء والأكلة النهمين والباحثين عن المتع الحسية واللاهثين وراء تجميل الحياة وكسر روتينها بتجريب أمور مختلفة وجديدة وكل ما ومن ترى في اهتمامهم أو تصفحهم أو شرائهم لهذا الكتاب وأشباهه صورة من صور تدني مستواهم الثقافي والمعرفي وسطحية عقولهم وتفاهة ما يقرؤون؛ فالعميق من الكتب والجاد والحقيقي والمصنف في دائرة الثقافة والمعرفة حسب فهمك وتصورك، لا يدخل هذا الكتاب في حساباتك، وهذا هو ما يجعلك تنصرف عنه إلى غيره بمجرد أن تقع عيناك على عنوانه الرئيس البارز على الغلاف المبهرج بالألوان واللوحات الفنية أو الصور الجاذبة والمغوية بالشراء، دون أن تعطي نفسك فرصة لقراءة العنوان الفرعي؛ لأنك تعي، سلفا، أن قراءتك له لن تغير من وجهة نظرك عنه ولن تعدل من قيمته لديك. 

 

    لكن، ماذا لو صبرت قليلا وقرأت العنوان الفرعي، دون أن تعطي البهرجات المغرية في الغلاف أي اعتبار؟ اليس من الممكن أن ينقلب انطباعك الأولي عنه إلى مفاجأة تهزك من أعماقك حينما تكتشف أنك وقعت على كنز ثمين جدا جدا؟

 

     نعم قد يحدث ذاك الأمر، وهذا بالفعل هو ما حصل معي حينما كنت أرى كتاب: "الطباخ" لمؤلفته "بلقيس شرارة" أمام ناظري عشرات المرات، دون أن أعيره اهتماما يذكر إلا بعد أن وقعت على فيديو لندوة ثقافية في جامعة عراقية عن الكتاب أثناء البحث في اليوتيوب عن فيديوهات تمكنني من معرفة أكثر بمؤلفي كتاب المذكرات السياسية المعنون ب: "جدار بين ظلمتين" الذي كتبه السجين السياسي العراقي: "رفعة الجادرجي" وزوجته العراقية ذات الأصول اللبنانية التي شاركته الكتابة لا السجن: "بلقيس شرارة؛ فقد قادني فضولي إلى مشاهدة ذاك الفيديو بعد أن تركته مرات تزيد على العشر أثناء بحثي ذاك، وبعد مشاهدته عدت إلى قوقل للبحث عن كتاب: "الطباخ" ذاك بعد أن كنت قد شاهدت صورته في صفحاته عشرات المرات أثناء البحث عن هذين الكاتبين. وبمجرد أن قادني تركيز بصري إلى قراءة عنوانيه الفرعيين اللذين جاء الأول منهما في الآتي: "دوره في حضارة الإنسان" وجاء الثاني في صياغة طويلة هي: "التطور التاريخي والسوسيولوجي للطبخ وآداب المائدة"، أدركت مغايرته للسائد من كتب الطبخ، فثمنت قيمته الثقافية والمعرفية، وبلغ تثميني ذاك لقيمته هذه منتهى الإعجاب به، حينما حملته إلى هاتفي واطلعت على فهرست المحتويات ثم دلفت لقراءة تقديم زوجها "رفعة الجادرجي" الذي سلبني لبي بتقديمه ذاك وجعلني أعي معنى لقب "فيلسوف العمارة" الذي أطلق عليه؛ فهل كانت، يا ترى، هذه هي سيرة معرفة هذا الكتاب والتوصل إليه والتحصل عليه، وهل تلك هي كل الأسباب التي جعلته يتردد كل تلك المرات أمام ناظري ولا ألتفت إليه؟ 

 

     لا طبعا؛ فسيرة الكتاب أبعد مسافة وأعمق غورا مما طرح، ولن يعي عذابها الممتع ولا يشعر به ولا تمسه نار سلامه الباردة إلا من عايش وعاش قلق المعرفة وتجربة البحث العلمي وأدركته محبة العلم والثقافة والأدب؛ فالتوصل إلى كتاب ما والحصول عليه بعنت وعذاب، يجعلان أي أحد يلتهمه بتعطش كبير وتقدير لا يحد كلما كان ما فيه قيما، كما أنه يحتفظ لمن دله عليه أو أعاره أو أهداه أو اشتراه له بإكبار لا ينقص وامتنان لا ينقطع، وأما إن تحصل عليه بيسر وسهولة، حتى وإن كان وجوده يكاد يكون منعدما، فحماسته تقل تجاهه وطاقة استيعابه تخفت واعترافه بالجميل لمن دله عليه أو أوصله إليه يزول سريعا وشعوره تجاهه بالامتنان ينتهي بمجرد انتهاء اللقاء أو إعادة الكتاب إلى صاحبه، ولي في ذلك تجارب كثيرة جعلتني أغير من سلوكي تجاه من يبحث عن كتاب ما وأراه محتاجا له بشدة ولا يجده عند غيري.

 

     لقد ذكرتني سيرة التوصل إلى والتحصل على كتاب ما بكتب وسير مختلفة كسيرة الله والسيرة الذاتية وسيرة نص ومنهج السيرة، ولكن ما لفتني منها وجعلني أستلهم منها سيرة التعرف والوصول والتحصل على كتاب، على الرغم من تباينهما، هو بحث بعنوان: "سيرة نص" الذي قد يذهب بالقارئ إلى تصورات عن سيرة تختلف عما أراده لها عبد الحكيم راضي أن تفهم في بحث نشره في كتاب له عن النقد العربي القديم؛ فقد وجدناه فيه يورد نصا نقديا للجاحظ كما أتذكر، ثم أخذ يتتبع حضوره التاريخي في كتب أخرى قديمة لغيره جاءت متتابعة زمنيا بعده، وعمل على فحص استشهادها به كتابا كتابا؛ لينتهي إلى نتيجة مفادها أن كل انتقالة لذاك النص من كتاب إلى آخر كانت تفقده بعض أمور في كل مرة؛ الأمر الذي جعل النص في نهاية المطاف يحمل معنى مغايرا تماما لما يقوله النص في السياق الذي ورد فيه عند الجاحظ، وهذا الأمر يكشف عن مدى التزييف الذي لحق بنصوص التراث في كتب التراث نفسها، فما بالك باستشهادات كتب اليوم بتلك النصوص أو بغيرها.

 

     وإذا كانت هذه المرجعيات قد كتبت "سيرة العنوان"، فإن الأصول البعيدة لسيرة الوصول والحصول على كتاب: "الطباخ" وتعرفي به، تعود إلى ما لا علاقة له به ولا بمؤلفته ولا زوجها. ولإيضاح ذلك أذكر أن اشتغالي ببحث عن رواية "كهنوف" منذ سنوات، قادني إلى البحث عن النصوص السردية والروائية التي جمعت على تأليفها أكثر من كاتب كما هي حالة رواية "كهنوف" التي اجتمع على كتابتها تسعة عشر كاتبا، وذاك البحث قادني، بدوره، إلى التوصل إلى مجموعة من الروايات والسرود التي كانت مذكرات الزوجين التي ذكرتها سلفا من بينها.

 

     وبما أن هذه النصوص ذات أهمية في إنجاز البحث الذي أكتبه، فقد قمت بتحميل كل ما أمكن من النصوص السردية الجمعية التأليف، وكان كتابهما من ضمنها. وبالتصفح والتقليب لتلك النصوص، شدني كتاب "جدار بين ظلمتين، فأخذت بقراءته خطوة خطوة إلى أن أعجبت بتقنيته وإلى أن وصل الإعجاب إلى ذروته حينما اكتشفت أن صاحبيه تبنيا استراتيجية تسمح بتعدد السراد الخارجيين وتفاوت مستوياتهم؛ الأمر الذي جعله يصنف وحده بحق في دائرة النصوص السردية المشتركة وليس في دائرة التشاركية ولا التفاعلية التي صارت عليها بقية النصوص السردية الجمعية التي أضحت بين يدي.

 

     هذا الإعجاب بالكتاب، حفز على الإعجاب بمؤلفيه اللذين أخذت أبحث عنهما وعن بقية إنتاجهما في قوقل ويوتيوب وغيرهما من وسائل البحث الإلكترونية التي كانت تبرز دائما اقتران اسم: "بلقيس شرارة" بكتاب: "الطباخ" فأتجاوز ذاك عشرات المرات وأنا أضحك مما أتصوره عن اقتران اسمها به بعد أن اقترن بكتاب: "جدار بين ظلمتين" الذي أعجبت به أيما إعجاب، وكلما تصورت المفارقة بينهما زاد تجاوزي له، إلى أن حدث ما شرحته لكم سابقا من سيرة التعرف والوصول والتحصل على كتاب عظيم ككتاب: "الطباخ" لفيلسوفة الطبخ زوجة فيلسوف العمارة.