لطالما تمنينا أن تتخلص الرسائل والأطاريح العلمية في جامعاتنا اليمنية من النزعة التمجيدية لما لنا من معارف وتتبنى النزعة النقدية التي تمكننا من إعادة مساءلتها وتحليل ما أمكن كشفه فيها من الخطابات التي اخترقت مختلف مجالاتها العلمية والثقافية وتحولت إلى سلطة متحكمة في تشكيل كل تصوراتنا وسلوكياتنا وممارساتنا الحياتية، بل في صوغنا كما يراد لنا لا كما نريد نحن، ولكن تلك الأمنية ظلت، في تصوري، بعيدة المنال إلى يوم أول أمس؛ فأول أمس، حقق لنا الصديق الأعز والباحث الجاد والمختلف: محمد فائد البكري هذه الأمنية التي وجدناها في أطروحته للدكتوراه التي تقدم بها إلى قسم اللغة العربية وآدابها بكلية الآداب والعلوم الإنسانية - جامعة صنعاء.
هذه الأطروحة التي سارت على هدي المفكر والفيلسوف الفرنسي: ميشيل فوكو في تحليله لبعض الخطابات، اقتطع البكري سنوات عديدة من عمره لها؛ حاملا على عاتقه وحده هم تحليل (خطاب التمييز) الذي اخترقنا وما زال يخترقنا ويشكل حياتنا إلى اليوم، وسعى بكل جد وجهد وسعة اطلاع وعمق تفكير إلى تبيان الكيفية التي استغل بها هذا الخطاب معارفنا العلمية عموما، ومعارفنا العامة خصوصا، والأمثال التي اتخذها ميدانا للتحليل على وجه أخص؛ لكي يمرر نفسه عبرها ويفرض سلطته التمييزية بها ويتحكم في تشكيل وعينا وطرائق تفكيرنا من خلالها ويعمل على تنميط معارفنا ومجتمعاتنا وحياتنا، وفق منطوقاته المحملة بقيم مختلفة من التراتبية التي تسكن داخلها، ووفق قوانينه التي تغلغلت فيها.
لم يكن اختيار الأمثال ميدانا لتحليل خطاب التمييز نابعا من كونها تعد من أشد ميادين المعرفة العامة التصاقا بالحياة فقط، وإنما من كونها تعد من أقدر تلك الميادين على ترهين التمييز وخطابه في واقعنا المعيش؛ فمن هذا الافتراض قصر الباحث ميدان تحليله عليها في عنوان أطروحته التي وسمها ب"خطاب التمييز في الأمثال العربية"؛ حتى يرضي إكراهات المؤسسة الأكاديمية، رغم إدراكه بضرورة بحث هذا الخطاب في مختلف ميادين المعرفة التي يخترقها.
إن هذه الأطروحة تعري، من خلال الأمثال، قوانين حدوث التمييز ووجوده في حياتنا، وتكشف عن أشكاله المترسخة فينا، وتحفر وراء ما كونه، وتؤصل للحظة انبثاقه، وتتابع صيروراته، وتبحث عن فاعلية تكوينه وتصنيفه لنا ولمجتمعنا ولأفكارنا ولكل ما يصدر عنا من أقوال أو سلوكيات أو ممارسات بهذه الصورة أو تلك.
أطروحة كهذه تستحق أن يعتد بها صاحبها وأن ينوه بما فيها من مغايرة ومغامرة، كما تستحق ما نالته من تقدير الامتياز والتوصية بالطباعة، وتستحق تلك الرفقة المعرفية التي صاحبت فيها البكري منذ أن كانت فكرة الأطروحة بذرة إلى أن صارت شجرة باسقة قطوفها دانية، ولكن اقتراب ما تقوله من القارئ، لا يجعلها سهلة الفهم إلا لمن امتلك مفاتيح نهجها وصندوق أدواتها، كما أنها تستحق الأيام الطويلة التي قضيتها في قراءتها والعودة إلى مظانها والسعي إلى فحص مفاهيمها وإجراءاتها التحليلية؛ للتأكد من اتساق تصوراتها وانسجام مقولاتها وانضباط تحليلاتها وفق اشتراطات التحليل النقدي للخطاب الذي لم يأخذ الباحث من اتجاهاته المختلفة سوى باتجاه واحد هو اتجاه ميشيل فوكو الذي لم يتخذ منه منهجا يحتذيه بحذافيره، وإنما جعل منه خلفية يعتمد عليها معرفيا ويمتح منها إجرائيا ويفتق بتصوراتها ما يحتاج إليه عند التحليل.
هذه الأمور كانت هي كل همي حين أوكل إلي مناقشة هذه الأطروحة التي تشرفت فيها بصحبة الزميلين العزيزين: الدكتور: علي حمود السمحي المناقش الخارجي، والدكتور: أحمد صالح غازي المشرف المشارك عليها، كما أن صاحبها كان -قبل ذلك- قد حظي وتشرف بإشراف أستاذنا الدكتور: عبد العزيز المقالح (رحمه الله تعالى) عليها منذ تسجيل خطتها واستمر إلى أن وافاه الأجل قبل مناقشتها.
أعرف أن كل التهاني والتبريكات بهذا الإنجاز الأهم للصديق الأقرب: محمد البكري، لا تعني لديه إلا وقوعنا تحت سلطة خطاب ينبغي أن نتحرر منه؛ فالتبريكات والتهاني بحصوله على درجة أو لقب أو شهادة الدكتوراه تتضمن منطوقات تمييزية تحدث بين الناس تفاوتات وتراتبيات حسب تصوره التحليلي لخطاب التمييز، كما أن كثيرا من المهنئين والمباركين يصادرون على أنفسهم، دون وعي منهم، حق الشعور بالمساواة من خلال ما يمنحون المهنأ بها من سلطة تشرعن له التميز عليهم والمفارقة لمستواهم ولدرجاتهم ولمكاناتهم التي هو سعيد بالعيش معهم فيها، كما أنه لا يريد لهم بها أن يصنعوا منه وثنا أكاديميا ولا يريد لهم أن يصيروا صناعا لتبعات لاحقة مترتبة عليها ولا لتبعيات غير ظاهرة ناجمة عنها؛ فذلك لن يحدث إلا بمنحه اعترافا منهم بالسلطة الجديدة التي صار يمتلكها دونهم، حتى لو كان الأمر من باب المحبة المترجمة في ملفوظات التهاني والتبريكات؛ فالمحبة التي تجعلهم يهنئونه على ما ناله من صفة تجعلهم يخضعون للتبعية وهم لا يشعرون.
قد يكون، في تصوره، أن أمثال صيغ التهاني هذه أو شبيهاتها في مثل هذه السياقات أو شبيهاتها، هي التي صنعت وتصنع وستصنع الطغاة، وهي التي مزقت وتمزق وستمزق الناس إلى سادة وعبيد (ناس فوق وناس تحت)؛ لأن تلك الصيغ، حسب تصوره، تتضمن منطوقات تمييزية تتسرب إلى وعي الناس وتحدث الفوارق بينهم وتجعلهم يتقبلون ذلك دون ممانعة.
لكل ما مضى واستنادا إليه أقول: ليس بمقدوري أن أرفض للبكري طلبا ما دام لا يريد أن يدخل سجن الدالات الفاخر، وليس بمقدوري إبداع مفهوم يتناسب، في هذه اللحظة، مع حدث الدكتوراه الذي نال به درجتها ومع رفضه للقب الأكاديمي الذي صار من حقه بعد منحه له، كما أنه ليس لي، في الختام، سوى سؤال البكري بسؤال فيه تمييزات أرجو أن يتقبلها مني بوصفي صديقا له، كما أرجو أن يتقبل صياغته الآتية:
يا صديقي قل لي: كيف يعبر محبوك عن سعادتهم بهذا الحدث الجديد الذي انضاف إليك؟
فإلى أن يجيبني عنه سأهنئه بذكر منطوق تمييزي يأتي في صيغة الوداع الآتية:
إلى اللقاء يا صديقي (محلل الخطابات).